الكتابة عن العلم هى أصعب أنواع الكتابة، فأن تروّض مصطلحات العلم الجافة وتبعث الروح فى الأرقام والإحصائيات الخرساء وتتآلف مع صرامة منهجه الخانقة لأمثالنا من أبناء مجتمعات الفهلوة وهات من الآخر، هذه مهمة شبه مستحيلة فى مجتمع كاره للعلم مثل مجتمعنا، رافض لأسلوبه بالرغم من استهلاكه الهستيرى لمنتجاته، لتلك الأسباب كانت سعادتى غامرة بكتاب «شربة الحاج داود» للروائى الجميل والإنسان الأكثر جمالاً د. أحمد خالد توفيق، فأن تجد طبيباً يكتب عن العلم بنفَس روائى ومذاق قصصى فهذه عملة نادرة ومعجزة تنضم إلى قائمة العنقاء والخل الوفى! تخصص د. أحمد خالد توفيق، وهو طب الأمراض الحارة أو المتوطنة، سمح له بالاطلاع على معارك العلم الحقيقى فى أحراش أفريقيا وغابات أمريكا اللاتينية وغيرها من المناطق التى تتفوق فى تفاصيل معاركها عن الحروب العسكرية، معارك بجد وبحق وحقيقى ضد الملاريا والحمى الصفراء والإيبولا... إلخ، فيها ضحايا وشهداء وانتصارات وهزائم، تحكى قصصاً أشبه بالملاحم وتسرد تفاصيل عن علماء ضحوا بأنفسهم من أجل اكتشاف لقاح أو فضح طفيل أو فيروس، كل هذه التفاصيل المثيرة تغلفها مواقف طريفة وصدف عجيبة ومشاعر متناقضة ما بين الاحتفاء والغيرة والحب والحقد، طاف بنا المؤلف عبر هذه السافانا المتشابكة بأسلوب سلس وجميل، وأحياناً بوليسى، مثير وجذاب. طاف بنا أيضاً فى تخاريف وهلاوس العلم الزائف من الأعشاب إلى الكفتة مروراً بدجل الحمام والحبة الصفراء وارتباط التوحد بتطعيم الحصبة... إلى آخر تلك الأوهام التى يبيعها النصابون لمجتمعنا الذى يعانى من أنيميا علمية حادة نتيجة تعليم منحدر أكد المؤلف مراراً وتكراراً أنه لا حل ولا إنقاذ لمصر إلا بإصلاحه. من أهم النقاط التى ناقشها الكتاب بيزنس الطب الذى جعل الطبيب يخترع أمراضاً وهمية لمريضه لكى يسترزق وياكل عيش ويدخله فى دائرة الشكوى الجهنمية فى مجتمع يسكنه 90 مليون مفتى وطبيب!! ظاهرة الطبيب المستفيد لا المعالج، ناقش ظاهرة عشق بلبعة الأدوية وعشق وصفها أيضاً، وهى ظاهرة مصرية غريبة ومتفردة حقوقها محفوظة لنا مثل جهاز الكفتة وعلاج التليف بفعص جوز الحمام على سرة المريض!! شربة الحاج داود كتاب يستحق القراءة والاقتناء والتأمل والمناقشة، شكراً للدكتور أحمد خالد توفيق على هذه الوجبة الفكرية الشهية.